قصة اعجبتني وحبيت اشاركم فيها
فشــــلت كل الطرق العلمية والوصفات الشعبية في تسكين آلامه المتنقلة في جسده، حتى حجاب أم نديم الشهير، وذو المفعول العجيب في شفاء الأمراض، عجز عن شفائه من آلامه. وطالما سخر من الأحجبة، ومن الذين يلجأون لهذه الطرق المضللة، ولكن آلامه الملّحة والعنيدة جعلته يفقد منطقه ومحاكمته، ودفعته يائساً بلا وعي إلى بيت أم نديم لتحضر له حجابها الشهير في شفاء الأمراض.
عاد إليها بعد أسبوعين يغلي من الغضب، وتطايرت شتائمه من فمه حمماً في كل اتجاه، مُغرقة أم نديم بجثتها الهائلة وأثاث بيتها المتراص والفخم، وقصاصات الأوراق والأعشاب والبخور والروائح الغريبة التي تملأ بيتها، وتمكنت أم نديم أخيراً من الصراخ بصوتٍ طغى على صوته قائلة بانفعال:
-طوّل بالك، أنتَ قصدتني ورجوتني أن أصنع لك حجاباً لتسكين آلامك، وأنا لستُ كاملة -استغفر الله- وقد يخيب مفعول الحجاب مرّة من المرات، فهل أجرمتُ بحقك؟
صرخ: لكنك قبضت مبلغاً كبيراً يانصّابة.
قاطعته غاضبة: اسكت، لن أسمح لك بإهانتي، والله لو لم تكن في بيتي لكنتُ طردتك، ألم تدفع للأطباء أضعافَ مادفعتَ لي، فماذا قدّموا لك؟ هل شفوك من آلامك؟ هل سكّنوا أوجاعك؟ ألم تخبرني بنفسك أنك سافرتَ من مدينة إلى مدينة قاصداً أشهر الأطباء، ولم تستفد، فلماذا تصب غضبك علي، ألأنني إمرأة بسيطة غير متعلمة؟
همدت نيران غضبه فجأة، كأن كيساً كبيراً من الرمل قد انسكبَ فوق ناره المستعرة وغمره شعور عميق باليأس، وتحوّل يأسه إلى صحراء لانهائية.
ويبدو أن أم نديم تأثرت كثيراً من كلامه، فقالت بلهجة جافة مضطربة: تفضّل سأعيد لك مالك، ولكن إياك أن تقصدني بعد الآن.
هزّه موقفها. تعجّب أن تكون إمرأة مثلها تعيش من الدجل تتحسس لكرامتها بهذه الطريقة. وجد نفسه يقول: لا، لا أريد شيئاً، وهمَّ بالانصراف.
لكنها ألحّت، وأحس صوتها يشده من كمه ويجبره على التوقف.
قالت: لا، انتظر. مدت يدها إلى أعلى صدرها، وسحبت كيساً أزرقَ منتفخاً، وفتحته لتسحب منه الخمسمئة ليرة وتعيدها إليه، وهي تقول بلهجة متعالية: تفضّل.
أخذ ورقة النقود، وهو يحس أن أم نديم تتفوق عليه، تذكّر كيف نعتها منذ لحظات بالنصابة، وتمنى لو يعتذر لها، لكنه لم يستطع، ربما لأن إحساسه بعدم احترامها منعه، أو أنه اضطرب وارتبك، وخاف أن يجر الاعتذار لكلام وكلام هو بغنى عنه، وأقرَّ لنفسه وهو يسير تائهاً أن الاعتذار بطولة حقيقية. ابتدأت الآلام في قدميه تذله، وتعلن انتصارها عليه، انتقل الألم إلى أسفل ظهره، فكاد يتأوه، لكنه كبحَ نفسه، وتساءل بيأس متمنياً لو يتصالح مع آلامه، أو يصل معها لهدنة مؤقتة إلى متى؟ وكيف لم تشفَ هذه الآلام رغم أنه راجع عيادات أشهر الأطباء، وخضع لفحوص دقيقة، وصور وتحاليل، بل أحس أن جسده يُفك قطعة قطعة، وتفحص كل قطعة وحدها ثم يُعاد تركيبه من جديد، لكن الآلام المبهمة لم تشفَ. عجز الأطباء، وعجز السحر، آه أيتها الآلام لماذا تسحقينني بهذه الطريقة وتفقدينني شيئاً فشيئاً إنسانيتي؟ ماكاد ينهي تساؤلاته حتى فاجأته صعقة ألم في رقبته أجبرت الآه أن تنطلق من أعماق روحه.
وصل إلى بيته أخيراً، ودخل محني الظهر منطوياً من الألم، تهالك فوق سريره ببذلته وحذائه، أغمض عينيه على دموع القهر، وأخذت آلامه تتوارى. غريبة هذه الآلام، إنها تخفّ بالاستلقاء ويحرّضها المشي، ترى ماسرّها؟
اقترب منه صغيره ذو الأعوام الأربعة وسأله: بابا متى عدت؟
فتح عينيه الدامعتين ومدَّ له يده، فقفز الصغير فوق السرير، وجلس على ظهره ثم تمدّد بقامته الصغيرة فوقه وقبلّه، أحس بسعادة تلفح روحه كنسمة ربيعية تهب في يوم جهنمي، كادت آلامه تختفي، لولا دخول زوجته تطلب منه أن يستبدل جرّة الغاز القديمة الفارغة بأخرى ممتلئة لتكمل الطبخ.
سألته: ماذا فعلتَ مع أم نديم؟
ردّ باقتضاب غير راغب في إخبارها إنها أعادت له نقوده، وأنه اكتشف أنها امرأة ذات كرامة: -لاشيء.
قالت: لقد قبضت هذه الدجالة خمسمئة ليرة.
قال ببرود: الأطباء قبضوا أكثر بكثير.
-لكنهم أطباء.
قال ساخراً: لكنهم لم يشفوني.
-أتدري لقد سمعت عن رجل قدراته خارقة، عاش سنوات في الهند واليابان ثم سافر إلى المكسيك وأميركا الجنوبية، ويقال إنه درس طويلاً أسباب الآلام، وله طرق حديثة في علاجها، فلمَ لاتقصده؟ إن شهرته عالمية، والناس يقصدونه من كل البلاد و...
قاطع زوجته فلم يكن راغباً بالحديث، نظرَ إليها ببرود، وبعد أن انتهى من تركيب جرّة الغاز، سألها: متى يكون الغداء جاهزاً؟.
قالت: بعد ربع ساعة.
عاد إلى سريره، تمدّد وأغمض عينيه، وأحس أنه ينتظر حكم القدر في آلامه، استعادت أذناه حديث زوجته، وأكَّد لنفسه أن للنساء قابلية غريبة في تصديق كل الخرافات، ألم تقنعه زوجته بزيارة أم نديم، وشرحت له كيف حملت صديقتها من حجاب أم نديم، بعد أن فشل الأطباء في معالجة عقمها، وكيف شفى حجاب أم نديم زوج صديقتها من آلام الشقيقة. دفن رأسه في الوسادة وهو يقول: آه من أم نديم ومن الأطباء. يبدو أنه غرق في النوم، لأنه تنبه لصغيره يهزّه من كتفه ويقول: باب، الغداء جاهز. وجد نفسه يسأل زوجته على الغداء: أين يسكن ذلك الرجل الذي عاش في الشرق الأقصى، ودار العالم، واكتشف طرقاً لمعالجة الآلام المعندة؟
ردت زوجته بحماسة: لقد سمعتُ أنه استقر في المكسيك، لكنه يتجول في بلاد العالم كلها، وبأنه سيزور بلادنا بعد أيام، وأن هناك لجنة لتنظيم المقابلات معه.
سيطر عليه حدس قوي أنه سيجد حلاً لآلامه عند هذا الرجل، وعزم أن يلقاه ولو اضطر إلى أن يلحقه إلى المكسيك. أهو اليأس الشديد يجعله يخلق آمالاً زائفة واحداً بعد الآخر؟
لم يتمكن من تأمين موعد مع الرجل الشهير بالبساطة التي تخيلها، فقد أخبروه أن المواعيد كلها محجوزة منذ شهر، لكنه بعد أن دفع مبلغاً كبيراً للجنة المنظمة للمقابلات مع الرجل الخارق، حددوا له موعداً، ودفع مبلغاً إضافياً ليكون موعده قريباً.
في يوم الموعد أحس كيانه كله مضطرباً، وأحس أنه ينتظر نتيجة امتحان عسير، واشتدت عليه آلامه، لكنه كان راضياً، لأن الرجل العبقري سيعاين آلامه عن كثب، وقد يعفيه من وصفها. أخذ قلبه يخفق متسارعاً كلما اقترب موعده، وآمن أن هذه الزيارة ستكون منعطفاً في حياته، وأنها إن لم تشفه من آلامه، فستقدم له حلاً للغزها. تذكّر أنه لم يحس بهذا الشعور أبداً قبل زيارته لأشهر الأطباء.
أعلن المسؤول عن تنظيم المقابلات عن اسمه، قام تتقدمه آلامه، واجتاز البهو الكبير وهو يحس أنه يتأبط ذراع آلامه. وصل إلى الباب الكبير الذي يفصله عن الرجل العبقري. تركه المسؤول عن المقابلات لحظة، ثم عاد إليه بعد دقائق وقال: السيد بانتظارك، تفضّل.
وقع نظره على الرجل العبقري قاهر الآلام، خاب أمله إذ رآه قصيراً نحيلاً، يلبس قميصاً أزرقَ وبنطالاً بنياً، لحيته مشذبة خفيفة، وتدلّ التجاعيد حول عينيه على أنه تجاوز الخمسين، لكنه اعترف أن عينيه غريبتان، لاتشبهان عيني البشر ترى ماسر عينيه؟ وإلى جانبه جلس المترجم، سأله عن اسمه وعمره وعمله وإن كان متزوجاً، ولديه أولاد، أجاب بدقة، تكلم الرجل العبقري بصوت منخفض، فحدثه المترجم إن عليه أن ينزع ثيابه ويبقى بسرواله فقط. نزع ملابسه، فنظر إليه الرجل ذو العينين المتوقدتين بالمعرفة بتمعّن، وأخذ يتكلم بصوته الخفيض، ووجد المترجم يسرع خارجاً من باب جانبي لم يلحظه ويعود بعد ثوانٍ حاملاً علبة كبيرة معدنية قدّمها للرجل الشهير. فتح الرجل العبقري العلبة بيديه النحيلتين، وأخرج منها جهازاً مستطيل الشكل تملأ سطحه الأزرار، وطلب إليه أن يتمدد، ووضع الجهاز الغريب قربه، وأخذ يفقس الأزرار زراً بعد زر.
بدا على الرجل المبدع الاهتمام البالغ، وأخذ يتكلم، أخبره الترجمان أن الرجل شخّص آلامه وعرف سببها، اختلج قلبه بالانفعال، اعترفَ أن حدسه لايخيب أبداً.
أخذ الرجل الخارق يتكلم وهو يراقب ولايفهم، لكنه انتبه أن الترجمان أخذ يبحلق في الرجل مذهولاً، ويفغر فاه وهو يقول هامساً: غير معقول.
أخذ يرتجف كعصفور يرتعش من البرد، تعلّقت عيناه بوجه الترجمان الذي أحسه سيغمى عليه، ولم يتمالك أن سأله فاقد الصبر: خير، ماذا قال؟
وبعد أن استعاد الترجمان هدوءه قال له:
-الأستاذ يقول إن مرضك غريب، لكنه ليس نادراً، وأنه شخّص عدة حالات حتى الآن من هذا المرض الغريب والآخذ بالازدياد، وأنه يتوقع أن يزداد هذا المرض كثيراً في هذا العصر.
قاطعه متلهفاً ليعرف اسم المرض، ما مرضي الذي شخصّه؟
ردَّ المترجم بتؤدة محاولاً تبسيط المعلومات قدر الإمكان:
-السيد صاحب نظرية جديدة تقول إن الضغوط النفسية قد تتحول لأثقال أحياناً، أي يصير لها وزن. تخيّل مثلاً أن ضغوطك النفسية تتحول لأثقال حديد مثلاً بالمعنى الحرفي للكلمة. وأن هذه الضغوط تكون دوماً عمودية، يقول السيد إنها تشبه الضغط الجوي. آه كيف سأشرح لك، ببساطة أقول لكَ إن وزن ضغوطك النفسية هو سبب آلامك. وأن هذا الجهاز الذي استغرق اختراعه سنوات يقيس وزن هذه الضغوط النفسية والمساحة التي تتوزع عليها من جسمك. وقد وجد الرجل العبقري بعد دراسة مستفيضة أن هذه الضغوط تتوزع على مساحة هي مسقط الجسم على الأرض، وكلما كان المسقط صغيراً، كانت الضغوط كثيفة متركزة في مساحة المسقط الصغير، وكلما اتسع المسقط -كما يحدث لو كنت مستلقياً- توزعت الهموم، أقصد أوزان الهموم على مساحة المسقط الكبير، أوه لعن الله الترجمة، والله لا أعرف لماذا تتعدد اللغات في العالم؟. لا أعرف إذا كنتَ فهمتَ شيئاً. لذا ينصحك الرجل الخارق ألا تمشي على رجلين لأن مسقطك على الأرض يكون أصغر مايمكن، وبالتالي ثقل همومك أعظمياً، وهذا يسبب لك الآلام الشديدة. بل يرى -وابتلع المترجم ريقه الجاف- أن تمشي على أربع حتى يكون مسقطك على الأرض واسعاً، وتتوزع أوزان همومك على سطح واسع، فتخف آلامك كثيراً.
بدا المترجم مُضحكاً وهو يقول في النهاية: أنا آسف.
سأله وهو يحس بشعور عابث يعربد في نفسه: هل الرجل العبقري قال: أنا آسف، أم أنتَ تقولها؟
ابتسم المترجم وهو يقول: لا، لم يقل إنه أسف، بل أنا من يتأسف لأني لايمكن أن أتخيّل أن يسير إنسان على أربع.
نظرَ الرجل مطولاً إلى الجهاز المستطيل المغطى بالأزرار كالدمامل، ونقل نظره إلى الرجل العبقري، فوجده يبتسم له وعيناه بئران من المعرفة والسر، لا قرار لهما. قام من مكانه، ولبس ثيابه، ووجد نفسه يركع ويحبو على أربع كطفل لم يتعلم المشي بعد. وللحال شعر كيف أخذت آلامه تتضاءل. ذعر الناس وهم يرونه يدب وتساءلوا: ماذا فعل له الرجل العبقري!
أما هو فكان سعيداً، لأنه تخلص من معظم آلامه، وتخيّل أنه من الأفضل لو يرّكب سرجاً فوق ظهره لحمايته، وتخيّل البقال واللحّام والخبّاز، يضعون الأغراض في أكياس سرجه. ضحك من قلبه وهو يتخيل صغيره يقفز على ظهره، آه سيتمكن من حمله أخيراً وهو يدب، بعد أن عجز عن حمل وحيده وهو منتصبٌ!
منقوله